الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قلت: لا تنافي في ذلك فإنه يرضى به من جهة إفضائه إلى ما يحب ويكرهه من جهة تألمه به كالدواء الكريه الذي يعلم أن فيه شفاءه فإنه يجتمع فيه رضاه به وكراهته له فإن قلت: كيف يرضى لعبده شيئا ولا يعينه عليه قلت: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة بحيث يكون وقوعها منه مستلزما لمفسدة راجحة ومفوتا لمصلحة راجحة وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة: 46- 47] فأخبر سبحانه: أنه كره انبعاثهم مع رسوله للغزو وهو طاعة وقربة وقد أمرهم به فلما كرهه منهم ثبطهم عنه ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي كانت ستترتب على خروجهم لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا أي فسادا وشرا ولأوضعوا خلالكم أي سعوا فيما بينكم بالفساد والشر يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم أي قابلون منهم مستجيبون لهم فيتولد من بين سعي هؤلاء بالفساد وقبول أولئك منهم من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم فاقتضت الحكمة والرحمة: أن منعهم من الخروج وأقعدهم عنه فاجعل هذا المثال أصلا لهذا الباب وقس عليه فإن قلت: قد يتصور لي هذا في رضى الرب تعالى لبعض ما يخلقه من وجه وكراهته من وجه آخر فكيف لي بأن يجتمع الأمران في حقي بالنسبة إلى المعاصي والفسوق قلت: وهو متصور ممكن بل واقع فإن العبد يسخط ذلك ويبغضه ويكرهه من حيث هو فعل له بسببه وواقع بكسبه وإرادته واختياره ويرضى بعلم الله وكتابته ومشيئته وإذنه الكوني فيه فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان وطائفة أخرى رأوا كراهة ذلك مطلقا وعدم الرضى به من كل وجه.وهؤلاء في الحقيقة لا يخالفون أولئك فإن العبد إذا كرهها مطلقا فإن الكراهة إنما تقع على الاعتبار المكروه منها وهؤلاء لم يكرهوا علم الرب وكتابته ومشيئته وإلزامه حكمه الكوني وأولئك لم يرضوا بها من الوجه الذي سخطها الرب وأبغضها لأجله.وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه والذي إلى العبد منها هو المكروه والمسخوط فإن قلت: ليس إلى العبد شيء منها قلت: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق والقدري أقرب إلى التخلص منه من الجبري وأهل السنة المتوسطون بين القدرية والجبرية: هم أسعد بالتخلص منه من الفريقين فإن قلت: كيف يتأتى الندم والتوبة مع شهود الحكمة في التقدير ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة قلت: هذا الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على خلاف ما هو عليه فرأى تلك الأفعال طاعات لموافقته فيها المشيئة والقدر وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته في ذلك وقيل:
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية فإن الطاعة هي موافقة الأمر لا موافقة القدر والمشيئة ولو كانت موافقة القدر طاعة لله لكان إبليس من أعظم المطيعين لله وكان قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وقوم فرعون كلهم مطيعين له فيكون قد عذبهم أشد العذاب على طاعته وانتقم منهم لأجلها وهذا غاية الجهل بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله فإن قلت: ومع ذلك فاجمع لي بين الندم والتوبة وبين مشهد القيومية والحكمة قلت: العبد إذا شهد عجز نفسه ونفوذ الأقدار فيه وكمال فقره إلى ربه وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين كان بالله في هذه الحال لا بنفسه.فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال ألبتة فإن عليه حصنا حصينا من: فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال فإذا حجب عن هذا المشهد وسقط إلى وجوده الطبيعي وبقي بنفسه: استولى عليه حكم النفس والطبع والهوى وهذا الوجود الطبيعي قد نصبت فيه الشباك والأشراك وأرسلت عليه الصيادون فلابد أن يقع في شبكة من تلك الشباك وشرك من تلك الأشراك وهذا الوجود هو حجاب بينه وبين ربه فعند ذلك يقع الحجاب ويقوى المقتضى ويضعف المانع وتشتد الظلمة وتضعف القوى فأنى له بالخلاص من تلك الأشراك والشباك فإذا انقشع ضباب ذلك الوجود الطبيعي وانجاب ظلامه وزال قتامه وصرت بربك ذاهبا عن نفسك وطبعك. فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة فإنه كان في المعصية بنفسه محجوبا فيها عن ربه وعن طاعته فلما فارق ذلك الوجود وصار في وجود آخر: بقي بربه لا بنفسه.وإذا عرف هذا فالتوبة والندم يكونان في هذا الوجود الذي هو فيه بربه وذلك لا ينافي مشهد الحكمة والقيومية بل يجامعه ويستمد منه وبالله التوفيق.قوله: ويصح بثلاثة شرائط باستواء الحالات عند العبد وسقوط الخصومة مع الخلق والخلاص من المسألة والإلحاح.يعني: أن الرضى عن الله إنما يتحقق بهذه الأمور الثلاثة فإن الراضي الموافق تستوي عنده الحالات من النعمة والبلية في رضاه بحسن اختيار الله له وليس المراد استواؤها عنده في ملاءمته ومنافرته فإن هذا خلاف الطبع البشري بل خلاف الطبع الحيواني.وليس المراد أيضا استواء الحالات عنده في الطاعة والمعصية فإن هذا مناف للعبودية من كل وجه وإنما تستوى النعمة والبلية عنده في الرضى بهما لوجوه:أحدها: أنه مفوض والمفوض راض بكل ما اختاره له من فوض إليه ولاسيما إذا علم كمال حكمته ورحمته ولطفه وحسن اختياره له.الثاني: أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله ولا راد لحكمه وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فهو يعلم أن كلا من البلية والنعمة بقضاء سابق وقدر حتم.الثالث: أنه عبد محض والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن بل يتلقاها كلها بالرضى به وعنه.الرابع: أنه محب والمحب الصادق: من رضي بما يعامله به حبيبه.الخامس: أنه جاهل بعواقب الأمور وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه.السادس: أنه لا يريد مصلحة نفسه من كل وجه ولو عرف أسبابها فهو جاهل ظالم وربه تعالى يريد مصلحته ويسوق إليه أسبابها ومن أعظم أسبابها: ما يكرهه العبد فإن مصلحته فيما يكره أضعاف أضعاف مصلحته فيما يحب قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] وقال تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].السابع: أنه مسلم والمسلم من قد سلم نفسه لله ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه ولم يسخط ذلك.الثامن: أنه عارف بربه حسن الظن به لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه.التاسع: أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضى وسخط فلابد له منه فإن رضي فله الرضى وإن سخط فله السخط.العاشر: علمه بأنه إذا رضي انقلب في حقه نعمة ومنحة وخف عليه حمله وأعين عليه وإذا سخطه تضاعف عليه ثقله وكله ولم يزدد إلا شدة فلو أن السخط يجدي عليه شيئا لكان له فيه راحة أنفع له من الرضى به ونكتة المسألة: إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وليس ذلك إلا للمؤمن.الحادي عشر: أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه ولو لم يجر عليه منها إلا ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه فلا تتم له عبوديته من الصبر والتوكل والرضى والتضرع والافتقار والذل والخضوع وغيرها إلا بجريان القدر له بما يكرهه وليس الشأن في الرضى بالقضاء الملائم للطبيعة إنما الشأن في القضاء المؤلم المنافر للطبع.الثاني عشر: أن يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يثمر رضى ربه عنه فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق: رضي ربه عنه بالقليل من العمل وإذا رضي عنه في جميع الحالات واستوت عنده وجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه.الثالث عشر: أن يعلم أن أعظم راحته وسروره ونعيمه: في الرضى عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات فإن الرضى باب الله الأعظم ومستراح العارفين وجنة الدنيا فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه وأن لا يستبدل بغيره منه.الرابع عشر: أن السخط باب الهم والغم والحزن وشتات القلب وكسف البال وسوء الحال والظن بالله خلاف ما هو أهله والرضى يخلصه من ذلك كله ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة.الخامس عشر: أن الرضى يوجب له الطمأنينة وبرد القلب وسكونه وقراره والسخط يوجب اضطراب قلبه وريبته وانزعاجه وعدم قراره.السادس عشر: أن الرضى ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها ومتى نزلت عليه السكينة: استقام وصلحت أحواله وصلح باله والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة وطيب العيش فمن أعظم نعم الله على عبده: تنزل السكينة عليه ومن أعظم أسبابها: الرضى عنه في جميع الحالات.السابع عشر: أن الرضى يفتح له باب السلامة فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضى وكلما كان العبد أشد رضى كان قلبه أسلم فالخبث والدغل والغش: قرين السخط وسلامة القلب وبره ونصحه: قرين الرضى وكذلك الحسد: هو من ثمرات السخط وسلامة القلب منه من ثمرات الرضى.الثامن عشر: أن السخط يوجب تلون العبد وعدم ثباته مع الله فإنه لا يرضى إلا بما يلائم طبعه ونفسه والمقادير تجري دائما بما يلائمه وبما لا يلائمه وكلما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه فلا تثبت له قدم على العبودية فإذا رضي عن ربه في جميع الحالات استقرت قدمه في مقام العبودية فلا يزيل التلون عن العبد شيء مثل الرضى.التاسع عشر: أن السخط يفتح عليه باب الشك في الله وقضائه وقدره وحكمته وعلمه فقل أن يسلم الساخط من شك يداخل قلبه ويتغلغل فيه وإن كان لا يشعر به فلو فتش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولا مدخولا فإن الرضى واليقين أخوان مصطحبان والشك والسخط قرينان وهذا معنى الحديث الذي في الترمذى أو غيره: إن استطعت أن تعمل بالرضى مع اليقين فافعل فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا العشرون: أن الرضى بالمقدور من سعادة ابن آدم وسخطه من شقاوته كما في المسند والترمذى من حديث سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من سعادة ابن آدم: استخارة الله عز وجل ومن سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله ومن شقوة ابن آدم: سخطه بما قضى الله ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله فالرضا بالقضاء من أسباب السعادة والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة.
|